بقلم محمد صبحي
في عالمٍ يتجه نحو صراع مفتوح بين القوى الكبرى، وأقطاب متعددة تعلن انتهاء زمن القطب الواحد
لم تعد القاهرة مجرّد عاصمة لدولة إقليمية، بل باتت ساحة يتقاطع فيها نفوذ واشنطن وبكين، ويتصارع فيها نموذج الدولة الليبرالية الغربية مع النموذج السلطوي الشرقي.
وبين الرغبة في التنمية، والحنين إلى الاستقرار، والخوف من الحرية، تقف مصر في مفترق طرق : إلى أين تتجه؟ ومن يُلهم قراراتها السياسية والثقافية؟ ومن يربح قلب الدولة وعقل المواطن؟
“هنا بكين”: الحلم بالتنمية دون حرية
الصين تقدم نفسها كقصة نجاح عظيمة: دولة منضبطة، تنموية، صاعدة بلا توقف. ويجد هذا النموذج صداه في القاهرة من خلال:
خطاب رسمي يمجّد الإنجاز على حساب الحقوق.
إعجاب إعلامي بالبنية التحتية والقطارات فائقة السرعة.
تبرير السلطوية باعتبارها ضرورة للنهوض الاقتصادي.
ومع تصاعد النفور من الضغوط الغربية، – في نظر بعض النخب خصوصا من هم علي يمين السلطة بشكل معلن او من يلعبون دور المعارضة المستأنسة – تبدو الصين شريكًا “لا يتدخل”، لا يسأل عن الحريات، لكنه يقدم القروض والتكنولوجيا.
“هنا واشنطن”: الغرب المتراجع لكنه الحاضر دومًا رغم ازدواجية معاييره
ورغم كل شيء، يبقى الغرب حاضرًا بقوة:
أمريكا والاتحاد الأوروبي ما زالوا شركاء اقتصاديين وعسكريين رئيسيين.
المؤسسات الدولية التي تضخ أموالاً في الاقتصاد المصري هي في معظمها غربية التوجه.
الأفكار الغربية – من حرية التعبير إلى الديمقراطية – لا تزال تجد من يؤمن بها، خاصه بين الشباب والمجتمع المدني.
لكن مع ذلك، يشعر كثيرون بالخذلان من الغرب، إما بسبب ازدواجية المعايير، أو بسبب دعم أنظمة غير ديمقراطية، ما يفتح الباب أمام منافسين جدد مثل بكين وموسكو.
هنا القاهرة: اللعب على الحبلين… أم السقوط بينهما؟
السياسة المصرية تمارس منذ سنوات لعبة التوازن:
الاقتراب من الصين وروسيا دون قطع الحبل مع واشنطن.
الاستفادة من التنافس بين القوى الكبرى للحصول على استثمارات أو شرعية دولية.
استخدام خطاب “الخصوصية الثقافية” لتفادي الالتزامات الحقوقية الدولية.
لكن هذا التوازن يحمل مخاطره:
أن تصبح القاهرة ساحة نفوذ لا فاعل مستقل.
أو أن تنعكس التناقضات الدولية على الداخل المصري، فتتعمق الانقسامات الثقافية والاجتماعية.
ويبقي المواطن المصري: بين القيم المتصارعة
ليس الصراع بين بكين وواشنطن صراعًا جيوسياسيًا فقط، بل هو صراع على معنى الحياة العامة:
هل الحرية خطر أم حق؟
هل النجاح يعني الطاعة أم المشاركة؟
هل الدولة فوق الفرد أم العكس؟
هذه الأسئلة يواجهها المصري يوميًا، في التعليم، في الإعلام، وفي علاقته بالدولة والمجتمع. والصراع الخفي بين النماذج يُعيد تشكيل وجدانه وتفكيره، دون أن يشعر.
—
من القاهرة… إلى أي نموذج ننتمي؟
من القاهرة، نسمع أصداء بكين وواشنطن تتصارع في الخطاب، في القرار، وفي الثقافة. لكن الخيار الحقيقي لم يُحسم بعد. فهل تختار مصر طريقًا يُحقق التنمية مع الكرامة؟ الأمن مع الحريات؟ أم تكتفي بتقليد هذا أو ذاك؟
الجواب لا يأتي من بكين أو واشنطن، بل من الداخل: من القدرة على بناء نموذج مصري حقيقي، يوازن بين الهوية والانفتاح، وبين الدولة والإنسان
فحقوق الإنسان ليست حكرًا على الغرب، ولا التنمية ملكًا للشرق مصر لم تُولد بالأمس أو أول أمس؛ فالقاهرة عاصمة دولة تحمل تاريخًا يمتد لآلاف السنين، تستطيع أن تصنع نموذجًا يجمع بين الحرية والتنمية إن أرادت أن تكون المنار الذي يهتدي به بكين وواشنطن، إن أرادت هم أو تركوها تريد.”