كيف تُسوَّق النماذج السلطوية في الخطاب المصري
في السنوات الأخيرة، بدأت نغمة جديدة تتسلل إلى الخطاب الرسمي والإعلامي في مصر: أن الديمقراطية الغربية “لا تناسبنا”، وأن هناك “نماذج بديلة” أكثر توافقًا مع خصوصيتنا الثقافية والتنموية. وفي صدارة هذه النماذج يأتي “النموذج الصيني”، الذي يُروَّج له بوصفه ديمقراطية منضبطة أو “ديمقراطية تشاركية” تعمل لصالح التنمية والاستقرار.
لكن خلف هذا الترويج يكمن سؤال جوهري: هل ما يتم تسويقه كـ”نموذج بديل” هو ديمقراطية بالفعل؟ أم مجرد محاولة لتبرير السلطوية بقالب فكري مستورد من الشرق؟
لا تتبنى الدولة المصرية رسميًا النموذج الصيني بالكامل، لكنها تشير إليه كمثال على:
التنمية دون اضطرابات سياسية.
الحكم طويل الأمد بيد قيادة “قوية وعاقلة”.
تحجيم دور المعارضة لحماية “الاستقرار”.
ويظهر ذلك في:
خطب المسؤولين حول “الديمقراطية التي تناسب خصوصيتنا”.
مقالات الرأي التي تتحدث عن “فشل النموذج الغربي”.
التركيز الإعلامي على إنجازات الصين، دون ذكر القمع أو انعدام التعددية.
يدور الخطاب الإعلامي: من “الخصوصية” إلى “الديمقراطية التنموية” ويتزايد استخدام مفردات مثل:
نحتاج ديمقراطية تنموية لا فوضوية
الغرب يفرض علينا معاييره بينما هو نفسه فاشل
الشعب يريد التنمية لا صناديق الانتخابات
وهذا الخطاب يُعيد تدوير أطروحات صينية وروسية، لكنه يُقدَّم بلغة محلية تبرّر ما هو قائم من قمع، لا كدعوة لتبني نموذج فعّال جديد.
ومن أهم أمثلة تطابق الخطاب المصري والشرقي
أولا مثال فيما يتعلق بـ أولوية “الاستقرار” على “الحرية”
تصريح الرئيس الصين شي جين بينغ:
> “التنمية لا يمكن أن تتحقق بدون الاستقرار. إذا غرقت البلاد في الفوضى، فكيف يمكن الحديث عن حقوق الإنسان؟”
وفي مصر: يتكرر خطاب يربط بين ثورات 2011 وبين الفوضى، ويُحمّل الحريات الزائدة مسؤولية الانهيار.
مثال تصريح المصري عبد الفتاح السيسي (أكتوبر 2021):
> “عايزين حرية؟ طب ما الثورة جابت الحرية، شوفوا حصلنا إيه… البلد كادت تضيع.”
ثانيا التصريحات التي تتعلق بالتركيز على التنمية الاقتصادية كشرعية بديلة
تصريح من وزارة الخارجية الصينية:
> “حقوق الإنسان تبدأ من الحق في الحياة والتنمية. الديمقراطية ليست وجبة موحدة تناسب الجميع.”
مصر: يتم تقديم المشروعات القومية والبنية التحتية كدليل على نجاح النظام وبديل عن المطالبة بالحقوق السياسية.
تصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (2020):
> “حقوق الإنسان مش بس حرية تعبير… حقوق الإنسان يعني صحة وتعليم وشغل وسكن محترم. واستطرد أن مش عارف اعلم مش عارف أعالج وبتكلموني عن حقوق انسان”
وأيضا التصريحات المتطابقة المتعلقة بالعداء لما يسمى بـ”التدخل الأجنبي”
تصريح الرئيس شي جين بينغ (2021):
> “لن نسمح لأي قوة أجنبية أن تُنظّر علينا بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان.”
تصريح الرئيس السيسي (2022):
> “إحنا مش هنسمح لحد يتدخل في شؤوننا… إحنا دولة ذات سيادة وعارفين مصلحة بلدنا.”
بالاضافة للتصريحات المتطابقة فيما يمكن وصفه ب شيطنة منظمات المجتمع المدني والربط بينها وبين الفوضى
تصريح من مسؤول صيني (2020):
> “المنظمات الممولة خارجياً قد تُستخدم كأداة لزعزعة الاستقرار.”
تصريح الرئيس السيسي (2018):
> “مش كل اللي يشتغل في المجتمع المدني وطني… في ناس بتشتغل ضد بلدها باسم الحقوق.”
وأخيرا يتلاقي الخطاب الإعلامي والسياسي المصري مع الخطابات التي يمكن وصفها (شرقية أوخطابات الكتلةالشرقية عل رأسها الصين وروسيا ) في استخدام مصطلحات مثل “الديمقراطية المنضبطة” أو “الخصوصية الثقافية”
تصريح رسمي للخارجية الصينية (2022):
> “الديمقراطية ليست ملكاً للغرب… لدينا ديمقراطيتنا الخاصة التي تناسب ثقافتنا.”
تصريح الرئيس السيسي (2016):
> “ماينفعش ناخد تجارب أوروبا ونطبقها هنا… إحنا لينا ظروفنا وتاريخنا.”
والسؤال الأن هل النموذج الصيني ديمقراطي فعلًا؟
من وجهة نظر غربية وليبرالية، النموذج الصيني لا يُعتبر ديمقراطية إطلاقًا:
فلا توجد انتخابات حقيقية.
والحزب الواحد يسيطر على الدولة والمجتمع.
ولا حرية تعبير أو صحافة مستقلة.
والرقابة والتجسس جزء من الحياة اليومية.
لكن الحزب الشيوعي الصيني يسوّق نموذجه باعتباره “ديمقراطية منضبطة” قائمة على التمثيل غير الانتخابي و”المشاركة من خلال المنظمات الرسمية”.
وهذا المفهوم يجد صدًى في الدول السلطوية التي تسعى لتجميل وجهها أمام شعوبها والعالم.
لماذا يُسَوَّق هذا النموذج في مصر الآن؟ ذلك أن هذا النموذج يمكن استغلاله
كمبرر للقبضة الأمنية: مواجهة الأزمات تتطلب “حزمًا”، والديمقراطية تُصوَّر كعبء.
كمنافس للغرب: في ظل صدامات مصر مع انتقادات الغرب، يبدو النموذج الصيني “مريحًا” كخيار بديل.
كخدعة لفظية: التلويح بكلمة “ديمقراطية” بشكل مرن لتفريغها من مضمونها الحقيقي.
وتمثل خطورة في إفراغ الديمقراطية من معناها
فعندما تصبح “الديمقراطية” مجرد تنمية دون حقوق، أو مشاركة دون تعددية، فإننا لا نؤسس لنظام بديل، بل لشرعنة الاستبداد، مع تغليفه بلغة حديثة.
وإذا فقد المواطن الثقة في أن الديمقراطية تعني حقوقًا ومشاركة، فإن ذلك يؤدي لتطبيع القمع كمصير دائم.
ولا أري غير البديل الحقيقي المثمثل في ديمقراطية محلية لا مزيفة
ما تحتاجه مصر ليس استنساخ الغرب، ولا تقليد الصين، بل:
نموذج ديمقراطي يراعي الواقع المحلي، دون أن يتخلى عن الحقوق الأساسية.
ومشاركة سياسية حقيقية، تضمن المساءلة وتفتح المجال للنقد والتعددية.
وتنمية قائمة على الشفافية، لا على الصمت القسري.
في ختام حديثي اليوم أري ضرورة التأكيدعلي أن
“الديمقراطية على الطريقة الصينية” قد تبدو جذابة لبعض النخب السلطوية، لكنها ليست حلًا حقيقيًا لشعوب تبحث عن الكرامة والعدالة. والمطلوب هو إعادة تعريف الديمقراطية من داخل التجربة المصرية، لا استبدال القمع المحلي بمقولات سلطوية مستوردة من الشرق
التنمية ليست بديلاً عن الحقوق فلا تنمية حقيقية بدون ضمان حقوق الإنسان. التنمية التي تأتي على حساب الكرامة والحريات ليست سوى مشروعات أسمنت وحديد فارغة، لا تُبني عليها دولة قوية
لا للمقايضة: لا الأمن يغني عن الحرية، ولا الخبز عن الكرامة
الاختزال الأخلاقي والسياسي الذي يقول “إما الأمن أو الحرية”، أو “إما التنمية أو الديمقراطية”، هو تلاعب بالوعي لا يليق بدولة تحترم نفسها
لطريق إلى مستقبل عادل لا يمر عبر استيراد نسخ استبدادية من الخارج، بل عبر صياغة نموذج مصري حقيقي يحترم الحقوق والحريات ويؤمن بأن المواطن شريك لا تابع. حقوق الإنسان ليست ترفاً نخبوياً، بل شرطاً لازماً لبناء دولة عادلة ومستقرة.